بسم الله الرحمن الرحيم
لا
يكون العبد عبداً لله خالصاً مخلصاً دينه لله كله، حتى لا يكون عبداً لما
سواه، ولا فيه شعبة ولا أدنى جزء من عبودية ماسوى الله، فإذا كان يرضيه
ويسخطه غير الله فهو عبد لذلك الغير، ففيه من الشرك بقدرمحبته ...
وكذلك
الذين يحبون العبد كأصدقائه، والذين يبغضونه كأعدائه؛ فالذين يحبونه
يجذبونه إليهم، فإذا لم تكن المحبة منهم له لله كان ذلك مما يقطعه عن الله.
والذين
يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عن الله،ولو أحسن إليه أصدقاؤه
الذين يحبونه لغير الله أوجب إحسانهم إليه محبته لهم وانجذا بقلبه إليهم
ولو كان على غير الاستقامة، وأوجب مكافأته لهم فيقطعونه عن الله وعبادته.
فلا
تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد كله لله عز وجل؛ فيكون حبه
لله ولما يحبه الله، وبغضه لله ولما يبغضه الله،وكذلك موالاته ومعاداته،
وإلا فمحبة المخلوق تجذبه، وحب الخلق له سبب يجذبهم به إليه، ثم قد يكون
هذا أقوى وقد يكون هذا أقوى، فإذا كان هو غالباً لهواه، لم يجذبه مغلوب مع
هواه، ولا محبوباته إليها؛ لكونه غالباً لهواه ناهياً لنفسه عن الهوى،
لمافي قلبه من خشية الله ومحبته التي تمنعه عن انجذابه إلى المحبوبات
وأما حُب الناس له فإنه يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم، فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة الله وخشيته وإلا جذبوه وأخذوه إليهم ...
فالغالب على الناس في المحبة من الطرفين أنه يقع بعض الشر بينهم،
والمعصوم من عصمه الله ...
وقد
يحبونه لعلِمه أو دينه أو إحسانه أو غير ذلك؛ فالفتنة في هذا أعظم؛ إلاإذا
كانت فيه قوة إيمانية، وخشية، وتوحيد تام؛ فإن فتنة العلم والجاه والصور
فتنة لكل مفتون.
وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم إن لم يفعلها وإلا نقص الحب.
أو حصل نوع بغض، وربما زاد أو أدّى إلى الانسلاخ من حبه فصار مبغوضاً بعد أن كان محبوبا.
فأصدقاء
الإنسان يحبون استخدامه واستعماله في أغراضهم حتى يكون كالعبد لهم،
وأعداؤه يسعون في أذاه وإضراره، وأولئك يطلبون منه انتفاعهم وإن كان مضراً
له، مفسداً لدينه، لا يفكرون في ذلك.
وقليل منهم الشكور.
فالطائفتان في الحقيقة لا يقصدون نفعه، ولا دفع ضرره، وإنما يقصدون أغراضهم به، فإن لم يكن الإنسان عابداً لله متوكلا عليه، مواليا له ومواليا فيه، ومعاديا، وإلا أكلته الطائفتان وأدى ذلك إلىهلاكه في الدنيا والآخرة.
وهذا هو المعروف من أحوال بني آدم وما يقع بينهم من المحاربات والمخاصمات والاختلاف والفتن.
قوم يوالون زيدا ويعادون عمرا.
وآخرون بالعكس؛
لأجل أغراضهم فإذا حصلوا على أغراضهم ممن يوالونه وما هم طالبونه من زيدا
انقلبوا إلى عمرو، وكذلك أصحاب عمرو كما هو الواقع بين أصناف الناس.
وكذلك
" الرأس " من الجانبين يميل إلى هؤلاء الذين يوالونه، وهم إذا لم تكن
الموالاة لله أضرّ عليه من أولئك؛ فإن أولئك إنما يقصدون إفساد دنياه: إما
بقتله، أو بأخذ ماله، وإما بإزالة منصبه، وهذاكله ضرر دنيوي لا يعتد به إذا
سلم العبد، وهو عكس حال أهل الدنيا ومحبيها الذين لايعتدون بفساد دينهم مع
سلامة دنياهم.
فهم لا يبالون بذلك.
وأما " دين العبد " الذي بينه وبين الله فهم لا يقدرون عليه.
وأما أولياؤه الذين يوالونه للأغراض فإنمايقصدون منه فساد دينه بمعاونته على أغراضهم وغير ذلك، فإن لم يفعل انقلبوا أعداء.
فدخل بذلك عليه الأذى من " جهتين " :
من جهة مفارقتهم .
ومن جهة عداوتهم .
وعداوتهم أشد عليه من عداوة أعدائه؛ لأنهم قد شاهدوا منه، وعرفوا ما لم يعرفه أعداؤه.
فاستجلبوا بذلك عداوة غيرهم فتتضاعف العداوة.
وإن لم يحب مفارقتهم احتاج إلى مداهنتهم ومساعدتهم على ما يريدونه وإن كان فيه فساد دينه.
فإن
ساعدهم على نيل مرتبة دنيوية ناله مما يعملون فيها نصيباً وافراً وحظاً
تاماً من ظلمهم وجورهم، وطلبوا منه أيضاً أن يعاونهم على أغراضهم ولو فاتت
أغراضه الدنيوية.
فكيف بالدينية إن وجدت فيه أو عنده، فإن الإنسان ظالم جاهل لا يطلب إلا هواه.
فإن لم يكن هذا في الباطن يحسن إليهم ويصبر على أذاهم.
ويقضي حوائجهم لله، وتكون استعانته عليهم بالله تامة، وتوكله على الله تام.
وإلا أفسدوا دينه ودنياه، كما هو الواقع المشاهد من الناس ممن يطلب الرئاسة الدنيوية؛ فإنه يطلب منه من الظلم والمعاصي ماينال به تلك الرئاسة ويحسّن له هذا الرأي، ويعاديه إن لم يقم معه، كما قد جرى ذلك مع غير واحد.
وذلك يجري فيمن يحب شخصاً لصورته فإنه يخدمه ويعظمه ويعطيه ما يقدر عليه ويطلب منه من المحرم مايفسد دينه.
وفيمن يحب صاحب "بدعة" لكونه له داعية إلى تلك البدعة يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل.
وإلا
عاداه ولهذا صار علماء الكفار وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل
ينصرون ذلك الباطل؛لأجل الأتباع والمحبين ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم