الشهود على الإنسان يوم القيامة
حسن صالح الخالدي
الحمد لله ، هدانا للإسلام ، وعلَّمنا الحكمة والقرآن ، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس ، وألبسنا لباس التقوى خير لباس . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ، شهادة أرجوا بها النجاة ، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ، وخيرته من خلقه ، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، فهدى الله به أعيناً عمياً , وآذاناً صماً ، وقلوباً غلفاً .
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد :
فاتقوا الله أيها المسلمون
اتقوه تقوى رجل ، يريد الجنة ، والنجاة من النار ، وهو يعلم أن يوم القيامة ، مصيران لا ثالث لهما ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ )
أيها المسلمون :
في صحيح الإمام مسلم : قصَّ علينا رسولنا صلى الله عليه وسلم حديثاً عجيباً في مجادلة العبد لربِّه وسيده ومولاه فقال :
( يقول العبد يوم القيامة : يا رب ألم تُجرني من الظلم ؟
فيقول : بلى ،
فيقول : إني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني ،
فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، فيختم على فيه ،
ويقال لأركانه ( يعني جوارحه ) : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلَّى بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكنَّ وسحقاً ، فعنكنَّ كنتُ أناضل )
هكذا يظن الإنسان أن الكلّ عدوه يوم القيامة ، فلا يرضى بشهادة أحد من الناس عليه ، لكنه يتفاجأ : بشهادة جوارحه عليه
يا عبد الله :
تخيَّل نفسك أنك ذلك الرجل الذي شهد عليه لسانه بما قال :
فكم هي الكلمات من رضوان الله التي قلتها ؟
وكم هي الكلمات التي تسخط الله وقد زلَّ بها اللسان ؟
وأنك ذلك الرجل الذي شهد عليه سمعه وبصره ، ويده ورجله ، وجلده وفرجه ، فكيف سيكون الحال يومئذ ؟
إني لأتخيل ذلك الرجل ، وقد وقف مبهوتاً مدهوشاً ، فاغراً فاه ، لهول ما يسمع ويرى .
يا الله :
كلُّ ما وصل إلى سماعك من أصوات سيظهر
كلُّ ما أبصرته عيناك سيظهر
كلُّ ما بطشته يداك سيظهر
كلُّ ما مشت إليه قدماك سيظهر
كلُّ ما عملته بفرجك سيظهر
وما من حيلة لهذه الجوارح إلا الإعتراف ، فالذي أنطقها هو الله (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{20} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .
أيها المسلمون :
وزيادة في كمال العدل من الله تعالى على ابن آدم ، فهناك شاهد ثاني .
إنهم الملائكة الكرام الكاتبون .
وهل نسيت يا مسلم أن معك ملكان يسجلان الأعمال ؟
فصاحب اليمين يسجل الحسنات ، وصاحب الشمال يسجل السيئات .
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ{10} كِرَاماً كَاتِبِينَ{11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) .
ويقول جل وعلا :
(مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .
ويقول :
(اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً).
فإذا أنكر الإنسان شيئا من أعماله ، نشرت صحيفته وكتبه ، فيرى كل عمل عمله في هذه الدنيا فيقول :
(مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا )
فتنبه يا عبد الله ولا تُمْلِ على الكتبة إلا خيرا .
وإياك والغفلة عن الكتاب ، فأنت آخذ كتابك باليمين أو آخذه بالشمال .
فإن كنت صاحب عمل صالح : من صلاة وصيام وصدقة وصلة رحم وحسن جوار وكلمة طيبة وذكر وتسبيح ونظافة قلب فابشر بالفرج من الله فأنت ممن يتسلم كتابه بيمينه ، فيقول للناس والفرحة تعلوا وجهه :
(هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ{19} إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ{20} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ{21} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ{22} قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ{23} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) .
وأما من طاوع هوى نفسه والشيطان ، سواء طاوع شياطين الجن ، أو طاوع شياطين الإنس فيقول :
(يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ{25} وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ{26} يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ{27}مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ{28} هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) .
فيأتيه الجواب من الله :
(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ{30} ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ{31} ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ) .
أيها الإخوة الكرام :
وزيادة في كمال العدل من الله فهناك شاهد ثالث .
فيا ترى من سيشهد عليك غير جوارحك ، وغير الكتاب التي كتبته الملائكة ؟
إنها الأرض التي تمشي عليها في هذه الدنيا.
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا{1} وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا{2} وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا{3} يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا{4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) .
والآن يا عبد الله : عُدْ بالذاكرة إلى الوراء .
كم من خطوة مشيتها إلى بيوت الله لأداء الصلاة جماعة مع المسلمين ؟ فهذه لك .
كم من خطوة مشيتها لتصلح بين المتخاصمين ؟ فهذه لك 0
كم من خطوة مشيتها إلى أمر بمعروف أو نهي عن منكر ؟ فهذه لك .
كم من خطوة مشيتها لتأكل بالحلال ، وتطعم أولادك وأهلك الحلال ؟ فهذه لك
وهكذا فأنت أدرى بما هو لك ، و ما هو عليك من الخطوات ،
فغدا تنطق الأرض بخطواتك التي مشيتها عليها
أيها الإخوة الكرام :
وزيادة في كمال العدل من الله ، فهناك شاهد رابع :
إنه محمد صلى الله عليه وسلم
وفي الحديث :
أن أعمال أمته تعرض عليه في قبره كل يوم ، وفي كل جمعة ، وسيشهد على كل عامل بما عمله .
( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً)
فانظر يا مسلم ، يا من رضيت بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً :
انظر إلى العمل الصالح ، الذي تريد به مقابلة هذا النبي الكريم .
وفي المقابل : احذر من كل عمل سوء ، تستحي من مقابلتي هذا النبي به .
وبذلك يا عبد الله يا مسلم يكون هناك شهود أربعة يوم القيامة :
جوارحك التي بين جنبيك .
وكتابك الذي سجلته الملائكة .
والأرض التي تمشي عليها .
ومحمد صلى الله عليه وسلم .
فا جعل هؤلاء الشهود ، يشهدون لك يوم القيامة لا عليك .
استغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم .